الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قالوا ولما انقضت السنة وظهر للملك من اختباره أحوال يوسف من جميع نواحيها أنه ذلك الرجل الذي هو أهل لأن يعتمد عليه في هذه المهمة واطمأن من لباقته ولياقته ووثق من اقتداره وكان العزيز شاخ وهرم فعزله عن العمل وأحاله إلى المعاش ثم أحضر يوسف عليه السلام إلى مجلسه بحضور ملائه وقلده الوزارة وبلغه أمر تعيبنه ووشحه بسيف مرصّع وحلاه بخاتمه ووضع له سريرا من ذهب مكللّا بالورد والياقوت وأجلسه عليه وتوجه بتاج الملك، وسلمه خزائنه وفوض اليه أمر الملك كله بصورة فوق العادة الجارية لمن سلف من وزرائه، وتخلى له عن كل شيء وأبلغ ذلك إلى عماله في جميع أقطار مملكته، فدانت له الملوك وأذعنت اليه الأمم وانقادت له أعيان المملكة وشيوخها، وتولى الأمر والنهي بنفسه، وكان عمره إذ ذاك واحدا وأربعين سنة، قالوا وتوفي العزيز في هذه السنة، فزوجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال أليس هذا أحسن مما كنت تريدينه؟ قالت لا تلمني أيها الصديق فقد كنت غضة طربة ناعمة، في ملك ودنيا كما رأيت، وكان صاحبي شيخا لا يأتي النساء وأنت على ما جعلك اللّه عليه من الجمال والأخلاق والهيبة والوقار فغلبتني نفسي وعصمك اللّه، قال ووجدها عذراء وولدت له افرائيم وميشا، قالوا ولما بدأت السنون الخصبة أقام السيد يوسف العدل بين أهالي مصر وغيرهم وأحبه الخاص والعام وهيء محالا لخزن الحبوب، واستحضر ما يؤمن لأهالي مملكته وغيرهم طيلة السنين المجدبة قالوا ولما دخلت السنون المجدبة فأول من أحسّ بالجوع الملك، فأرسل إلى يوسف يقول له الطعام الطعام، نخصص له وحاشيته وله نفسه كل يوم أكلة واحدة وسط النهار، ومن ثم صار غداء الملوك نصف النهار، وحتى الآن وهم سائرون على هذه العادة، وكان عليه السلام نبه جميع الأهالي إلى أن يدخروا طعام سبع سنين كما فعل هو، إذ ادخر لأهل مملكته ما يكفيهم تلك المدة، وقد فعلوا ولكنهم استهلكوه بسنة واحدة لعدم انتظامهم في الأكل وعدم اقتصادهم على أكلة واحدة كما فعل هو والملك، ولأن العادة في الغلاء (أعاذنا اللّه منه) تتغير إذ ان الإنسان يأكل فيه اكثر من زمن الخصب والرخص والرخاء، ولفراغ العين تقل البركة فطلبوا الابتياع منه، فباعهم بالسنة الأولى والثانية من السنين المجدبة بالنقود، والثالثة بالحلي والجواهر، والرابعة بالدواب والأنعام، والخامسة بالعبيد والجواري، والسادسة بالضياع والعقارات، والسابعة بأنفسهم وأولادهم، حتى صار جميع ما في مملكته ملكا له، واسترق أهلها فصاروا عبيدا له من جملة حاشيته، ثم ذهب فقابل الملك وقال له كيف رأيت صنع اللّه فيما خولتني فيه بحسن نيتك وعقيدتك في؟ فقال الملك نعم ما فعلت وحسن ما صنعت، أنا لك تبع والرأي لك فيهم وفي غيرهم، فقال الملك نعم ما فعلت وحسن ما صنعت، أنا لك تبع والرأي لك فيهم وفي غيرهم، فقال إذا، إني أشهدك وأشهد اللّه على أني أعتقتهم كلهم، ورددت لهم أموالهم وضياعهم، ثم ظهر عليهم وأبلغهم ذلك، فقالوا ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم ولا أرأف من يوسف، بل ولا سمعنا من آبائنا ملكا تحىّ بصفاته وحبه لرعيته، وكان عليه السلام لا يشبع طيلة السنين المجدبة، فقيل له في ذلك، فقال أخاف ان أنا شبعت أن أنسى الجائع، ولهذا فقد آمن به الملك وجميع الناس الذين وقفوا على أخلاقه هذه، وكان لا يبيع أكثر من حمل بعير للواحد لئلا يضيق الطعام على الباقين وكان يلقاهم بوجه طلق ويحسن إليهم ويوفي لهم الكيل ولا يميز بين أحد ويعدهم بأن يبيعهم مرة أخرى كلما نفذ ما عندهم ويقول إن الحبوب كثيرة فلا تخشوا نفادها، وان في الخزائن ما يكفيكم إلى وقت الخصب والحصاد، لذلك لا ترى أحدا إلّا ويدعو له بالخير.قال تعالى: {وَكَذلِكَ} كما أنعمنا على يوسف بما تقدم ذكره من تخليصه من إخوته ومن البئر ومن امرأة العزيز ومن السجن {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أقدرناه على أهلها وثبتنا قدمه وجعلناها راسخة في أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ} لا ينازعه فيها منازع، ولا يعارضه فيها معارض، له الأمر والنهي فيها من بعد اللّه تعالى وقد أكرمناه بذلك إكراما من لدّنا وقرئ {نشاء} بالنون لمجانسته قوله تعالى: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا} عطائنا الواسع في الدنيا من الغنى والملك والنبوة {مَنْ نَشاءُ} من عبادنا المخلصين لنا النّافعين لعبادنا {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} 56 منهم فيها لأن الإضاعة تكون للعجز أو الجهل أو البخل، والكل محال عليه تعالى، فامتنعت الإضاعة وحل الإحسان، وهو يعم أمورا كثيرة وحقيقة الشاهد والعيان، قال صلّى اللّه عليه وسلم في حديث جبريل الذي رواه مسلم عن عمر رضي اللّه عنه، قال أخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه الرؤية ليست برؤية عيانية بل حالة تحصل عند الرسوخ في كمال الإعراض عما سوى اللّه، وتمام توجهه إلى حضرته المقدسة بحيث لا يكون لسانه وقلبه وهمه غير اللّه تعالى، وسميت هذه الحالة مشاهدة لمشاهدة البصيرة إياه تعالى كما أشار إليها بعض العارفين بقوله:
وقال الكندي: قال تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} من أجر الدنيا مهما كان عظيما وهو مهيء {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ 57} اللّه تعالى فيأتمرون بأمره وينتهون بنهيه وفيه إشارة إلى أنه كان من المتقين زمن الهم والميل، واعلام بأن اللّه تعالى أعد ليوسف عليه السلام في الآخرة أعظم مما أتاه في الدنيا قالوا ولما اشتد القحط وعم البلاء احتاج أهل البادية إلى الميرة من الحاضرة فأتوا مصر ومن جملتهم أهله حيث كانوا نازلين بالعربات من أرض فلسطين عند ثغور الشام فقال السيد يعقوب عليه السلام لأولاده بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فاقصدوه ثم جهزهم وأرسلهم وذلك قوله تعالى: {وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ 58} جاهلون كونه هو إذ لم يعرفوه البتة، وذلك لأنهم جاءوا عليه على حالتهم البدوية التي تركهم عليها، فعرفهم هو لذلك وهم رأوا ملكا متوجا بتاج الملك بزي ملوك مصر فمن أين يعرفونه، على أن العرفان يخلقه اللّه تعالى في القلب ولم يخلقه فيهم إذ ذاك ليحقق اللّه ليوسف عليه السلام ما وعده به في قوله: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} الآية 15 المارة.
وقال زياد خير ما اكتسب المرء الإخوان، فإنهم معونة على حوادث الزمان، ونوائب الحدثان، وعون في السراء والضراء.قال ابن السماك أحق الإخوان ببقاء المودة الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملّك على القرب ولا ينساك على البعد ان دنوت منه داناك، وان بعدت عنه راعاك، وان استعنت به عضدك، وان احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله، فهو الذي يواسيك في الشدة أكثر من الرخاء، ويغار عليك كما يغار على نفسه ويساوي حاجتك بحاجته بل تقتضى مروءته تقديمها على حاجته ولو أضرّت به.وفي هذا قيل: وقال الآخر: وقيل لخالد بن صفوان أي اخوانك أحب إليك؟ قال الذي يسد قلّتي، ويغفر زلّتي، ويقبل عثرتي وقيل من لم يوأخ إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا بايثاره على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه وكثر تعبه.وقيل في ذلك: وقالوا إذا رأيت من أخيك أمرا تكرهه، أو خلة لا تحبها فانصحه وانهه واضرب له الأمثال على قبح عاقبتها، ولا تهجره رأسا، ولا تقطع صلته ولا تصرم ودّه، ولكن داو كلمته، واستر عورته، وابقه وابرأ من عمله قال تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} الآية 267 من سورة الشعراء، فإن اللّه لم يأمره بقطعهم بل بالبراءة من سيء عملهم، وقيل: وقالوا ليس سرورا يعدل لقاء الاخوان ولا غم يعدل فراقهم، ولكن من هؤلاء الإخوان فإن اخوان أهل هذا الزمن خوّان، ان أبديت لهم شيئا أحبوك وان منعتهم رفدك بغضوك، وهم كما قالوا شر الإخوان الواصل في الرخاء الخاذل في الشدة، وهذا الصنف منهم كثير، وفيهم يقول القائل: وأتى هؤلاء ممن نوه بهم حضرة الرسول بقوله ما تحابّ اثنان في اللّه الا كان أفضلهما عند اللّه أشدهما حبا لصاحبه، وما زار أخ أخا في اللّه شوقا إليه ورغبة في لقائه إلا نادته الملائكة من ورائه طبت وطابت لك الجنة.
|